*ثورة لتوحيد اللبنانيّين. ..تخاطب عقولهم لا غرائزهم!*

*ثورة لتوحيد اللبنانيّين. ..تخاطب عقولهم لا غرائزهم!*

*ثورة لتوحيد اللبنانيّين. ..تخاطب عقولهم لا غرائزهم!*

من الواضح أنَّ السلطة الحاكمة لم تأبه باﻻحتجاجات التي عمّت البلاد من أقصاها إلى أقصاها. وفي سكوتها المريب تعيش حالة من النكران التامّ، وكأنّ الأيام التسعة من المظاهرات، والتي اتّصل خلالها ليل المتظاهرين بنهارهم، غير كافية لاستخلاص بعض العبر حول ما يجري!

لقد انتفض الناس على منظومة الظلم والفساد وانعدام الرؤية، وقالوا: كفى إذلالًا! نريد أن نعيش بكرامة، فارحلوا! لن نثق بكم بعد اليوم!

رسالة قصيرة مفعمة بالقوّة والتصميم على تغيير الواقع الأليم مهما كانت التضحيات. ولكن من دأب على المماطلة والخداع طيلة عقود لم يكن ليقيم لها اعتبارًا؛ فراهن كالعادة، على ملل اللبنانيّين بعد حين، وانكفائهم إلى منازلهم خائبين محبطين، فتعود رحى الفساد للدوران، تطحن الأحلام والطموحات، لتملأ جيوبهم ذهبًا ...ولكن، عند خسارة هذا الرهان، لجأت السلطة إلى أدوات أكثر فعاليّة؛ إذ دفعت بالقوى الأمنيّة إلى الشارع لقمع المتظاهرين بالقوّة، وفضّ الاعتصامات وفتح الطرقات. إلّا أنَّ هذا التدبير لم يكن موفّقًا كذلك؛ فالقوى الأمنيّة التي أقسمت بشرفها على حماية المواطنين وصون كرامتهم، سطّرت صفحات من المروءة والشجاعة والمسؤوليّة، بوقوفها إلى جانب أهلها في انتفاضتهم السلميّة، وهم يطالبون بحقّهم المشروع بحياة كريمة في وطن معافى، تتكافأ فيه الفرص أمام جميع بنيه.

وظلّت السلطة غافلة عمّا يجري في الساحات، أو أنّها لم تكن لترغب أصلًا بالاعتراف بضخامة الاحتجاجات وتوسّعها، وقدرتها على إحداث تغيير فعليّ في مزاج اللبنانيّين، حيث اجتمع الشباب اللبنانيّ من الطوائف كافّة، موحِّدين صفوفهم في مواجهة عدو وحيد، ألا وهو الفقر، وقد توَّجَهُ انعدام الأمل كنتيجة طبيعيّة للسياسات الخاطئة والمحبطة التي انتهجها أهل الحكم منذ البداية، وللمماحكات التي لا طائل منها داخل الحكومة، وقد بدت واضحة منذ اليوم الأوَّل، والتي أدّت إلى انطلاق شرارة الثورة في السابع عشر من تشرين الأوَّل الحاليّ.

عجيب أمر أهل السلطة وامتعاضهم من وحدة اللبنانيّين الذين تخطّوا حواجز الخوف الوهميّة التي باعدت في ما بينهم على مرّ عقود من الزمن لأسباب ليست بمجهولة! هذه الوحدة التي، وبسحر ساحر، مكّنت اللبنانيّين من التعرّف بأهلهم في طرابلس وصيدا وصور والنبطية، وفي كلّ بقعة من أرض هذا الوطن الاستثنائيّ، فوجدوا عند بعضهم بعضًا، التقاليد عينها من الطيبة والكرم والمروءة والانفتاح التي طبعت ذاكرة هذا الشعب وتاريخه في ما مضى.

بالمقابل، تعدّدت الشعارات وتنوّعت منذ بدء الاحتجاجات، ولكنّها تتلخّص بثلاثة مطالب أساسيّة: استقالة الحكومة وتشكيل أخرى تتكوّن من أصحاب الاختصاص، فتقتصر مهامها على معالجة الوضع الاقتصاديّ المتأزّم، والتحضير لانتخابات نيابيّة مبكرة وفق قانون يجري العمل عليه، ويحظى بإجماع جميع الفرقاء، محاسبة الفاسدين، ثانيًا...واسترداد الأموال المنهوبة ثالثًا! ولقد ذهب بعضهم بعيدًا للمطالبة بإسقاط النظام، وهذا الأمر دونه الكثير من المحاذير والمخاطر ويهدّد كيان الدولة! وهنا لنا أن نسأل: من هم الفاسدون الذين ترغب الثورة بمحاسبتهم والزجّ بهم في السجون؟ أسيقتصر الأمر على النوّاب والوزراء الحاليّين والسابقين أم سيشمل غيرهم؟ فإذا كان الفاسد هو من اختلس أموال الشعب، القليل منها أو الكثير، ومن استخدم السلطة لتحقيق ربح غير مشروع، ومن تقدّمت عنده مصالح الآخرين على مصلحة وطنه وأهله، ومن خالف القوانين عمدًا دون أن يمسك أو يحاسب، ومن استخدم الرشوة لإنجاز معاملة إداريّة، وهناك الكثير من الحالات التي ينطبق عليها مفهوم الفساد، فعندها ستكون مروحة الفاسدين أكثر اتّساعًا، وقد تشملنا جميعًا، فهل سنحاسب الشعب اللبنانيّ بأسره؟! جميعنا يتحمّل جزءًا من المسؤولية لوصول البلاد إلى حافة الانهيار، وعليه، يجب أن تنصبّ كلّ الجهود في المرحلة الأولى لإيقاف التدهور المعيشيّ، وإعادة الحياة إلى الاقتصاد وإنعاشه، وإدخال الإصلاحات الضروريّة عليه.

ثمّة مسألة أخرى ﻻ تقلّ خطورة، ألا وهي أدبيّات الثورة السلميّة والهادئة والهادفة التي ترقى بخطابها إلى مستوى المسؤولية التاريخيّة الملقاة على كاهلها، فتمنع المتظاهرين من الانزلاق إلى خطاب مسيء وعبارات مهينة تساق بحقّ الرموز السياسيّة للأحزاب اللبنانيّة، وهذا أمر مرفوض...

ألم يخطر ببال المتظاهرين أنّ تلك الرموز لها مقامات، وتحظى بقاعدة شعبيّة واسعة حملتها إلى السلطة مرارًا، وستحملها مجدّدًا وفق أيّ قانون انتخاب يُعتمد؟! إنَّ التعرّض لهذه الرموز السياسيّة بشكل مباشر وشخصيّ، وتسميتها علنًا بألفاظ نابية، سيتسبّب باستياء مناصريهم ويباعد في ما بينكم وبينهم بعد أن اجتمعتم على معظم الشعارات المندّدة بسوء إدارة الدولة، وبالفساد المستشري الذي دفع بالاقتصاد إلى الانهيار!

إنَّها لحظة تاريخيّة يتعيّن على الثورة اقتناصها لبناء دولة المؤسّسات والقانون والمواطنة دون إقصاء أحد. إنّها الأكثريّة الصامتة التي تحرّكت وشكّلت نواة هذه الثورة، ثمّ توسّعت وتوحّدت على امتداد الوطن، وأحدثت صدمة إيجابيّة في المجتمع اللبنانيّ، المقيم والمغترب على حدّ سواء، وأنعشت أحلام اللبنانيّين بإمكانيّة قيام دولة ديمقراطيّة بحقّ، تقوم على مبادئ الحريّة والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. ولتحقيق هذه الغاية، على الثورة أن تسعى بجرأة لتغيير قواعد اللعبة السياسيّة، أو حتّى إعادة كتابتها من الصفر. إنَّه مسار طويل لن يتحقّق في غضون أيّام أو أشهر قليلة، وهو يعتمد على أمرين اثنين؛ *أوّلهما* ، إلغاء الطائفيّة السياسيّة، *وثانيهما،* كتابة دستور جديد من قبل هيئة تأسيسيّة؛ دستور يضمن المساواة بين جميع المواطنين على اختلاف مشاربهم وتوجّهاتهم. فمن دون هذا المسار، ستبقى الإصلاحات السياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، آنيّة وسطحيّة وغير مجدية!

تبقى أمنية واحدة... إذا كانت الثورات عمومًا تتعمّد بالدم، نريد لهذه للثورة اللبنانيّة أن تتعمّد بالوعي والانفتاح وقبول الاختلاف وهدم جدران الطائفيّة. أخيرًا، أتوجّه إلى المتظاهرين، من موالين للثورة أو المعارضين لها، إنَّ الساحات تتّسع لكم جميعًا... فافترشوا الأرض حيثما أردتم، وانصبوا الخيم وارفعوا الرايات حيثما شئتم، واصدحوا بالأناشيد كيفما ومتى وددتم، ولكن لا تلجأوا إلى العنف أبدًا، لأنّه ينزع عنكم صفة المروءة ويهدّد السلم الأهليّ، وهو ما يجب أن يكون بالنسبة إلى الجميع خطًّا أحمر. فالأيّام تتوالى والدهور تدور، ولكن لا شيء يمكن أن يلغي بأنّنا شركاء في هذا الوطن، بل نحن إخوة، ومهما يكن من أمر. فإنَّه يجب أن نحفظ أخوّتنا أمام الله، وأمام الأجيال القادمة...

حمى الله لبنان!

د. فهد نصر

أستاذ في كلّية العلوم- الجامعة اللبنانيّة

Kindly disseminate

لعرض أو إضافة تعليق، يُرجى تسجيل الدخول