فكرة

غوريه، الجزيرة الذاكرة

أصبحت هذه الجزيرة السنغالية رمز المأساة التي سبّبتها تجارة الرّقيق عبر المحيط الأطلسي، وقد تحوّلت اليوم إلى وجهة رئيسيّة للسّياحة التذكارية التي تجذب عشرات الآلاف من الزوّار كل عام، ومن بينهم عدد كبير من المنحدرين من أصول أفريقية قادمين من الخارج.
...

كليمانس كلوزيل

صحفي من داكار (السنغال)

في فناء منزل العبيد في غوريه الواقع أسفل المدرجين المتقابلين والمميزين لهذا المبنى الذي شُيّد في نهاية القرن الثامن عشر، يعرض المرشد السياحي تاريخ هذا المنزل الذي استُخدم على وجه الخصوص كموقع احتجاز للعبيد قبل ترحيلهم الإجباري باتجاه الأمريكيتين. كان يقف أمامه حوالي خمسة عشر زائرًا وهم ينصتون إليه في صمت في حين كان آخرون يستكشفون الزّنزانات التي كان يُحتجز فيها الرجال والنساء والأطفال. "لقد صُدمت من الغرف الصغيرة جدًا والمظلمة التي كانوا يَحشرون فيها العبيد. لشدّ ما تؤلمني رؤية هذه الظروف التي فُرضت على أجدادنا"، هكذا علّق محمد، تلميذ سنغالي في سنّ الرابعة عشر، جاء صحبة فصله في زيارة مدرسية.

في الطابق الأرضي، عند نهاية ممرّ طويل مظلم، ينفتح "باب رحلة اللاّعودة" مباشرة على البحر، من نفس المكان الذي اقتيد إليه العبيد قبل عبورهم إلى جزر الأنتيل والبرازيل وكوبا، والولايات المتحدة، وهايتي  وغيرها من الأماكن. وتُعدّ هذه اللّحظة من أبرز لحظات الزيارة. فلئن يلتقط البعض صورا لنفسه أمام هذا المكان الرمزي، يرفض آخرون ذلك بسبب طفوح المشاعر التي تثيرها القوّة الإيحائية للموقع.

أوليما، 21 عاما، زائرة أمريكية من أصل أفريقي وطالبة في الأنثروبولوجيا، تغادر الزيارة والدموع في عينيها وهي تقول: "لقد كان الوقْع صعبا للغاية". وتفسّر صديقتها غابرييل، فنانة موسيقية أصيلة ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة، وقد قدمت في أوّل رحلة لها إلى أفريقيا: "تقع على عاتقي مسؤولية الاعتراف بالدّور، المباشر أو غير المباشر، الذي لعبه أسلافي البيض في هذه التّجارة ومواجهته وفهم تاريخ العبودية".

اعتراف عالمي

تقع جزيرة غوريه على بعد أقلّ من أربعة كيلومترات من ساحل داكار، وقد أصبحت رمزاً لتجارة الرّقيق عبر المحيط الأطلسي. ويستقبل منزل العبيد، الموقع الأكثر زيارة في السنغال، عدة مئات من الزوّار يوميا.

يستقبل منزل العبيد، الموقع الأكثر زيارة في السنغال، عدة مئات من الزوار يوميا

ويعود الفضل في هذا الاعتراف العالمي بالموقع إلى أمينه الأوّل، بوبكر جوزيف ندياي، الذي لم يدّخر جهدًا للتّعريف بتاريخ غوريه، رغم إنّ المكانة الحقيقية للجزيرة في تاريخ تجارة الرّقيق عبر المحيط الأطلسي محلّ نقاش اليوم. ومن جهة أخرى، فقد سخّرت السّلطات السّنغالية جهودها منذ الاستقلال لجعل الجزيرة مكانًا للذّاكرة مفتوحًا للجمهور بفضل سياسات حفظ الموقع وإحيائه.

ثمّ كان إدراج الموقع على قائمة التراث العالمي لليونسكو في عام 1978 بمثابة المنعرج. فقد ورد في وثيقة وصف الموقع أنّ "الجزيرة الذّاكرة" تمثّل، بالنسبة للضمير العالمي، رمز تجارة الرّقيق وما رافقها من معاناة ودموع وموت. كما إنّ زيارات العديد من الشّخصيات، من أمثال رئيس جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا، والبابا يوحنا بولس الثاني، والرئيس الأمريكي باراك أوباما، قد ساهمت في تعزيز سمعة الجزيرة.

قِبلةٌ للزوّار

يقول المؤرّخان حمادي بوكوم وبرنارد توليي في كتابهما "صناعة التراث: جزيرة غوريه نموذجا" La fabrication du patrimoine : l’exemple de Gorée ، الصادر عام 2013: "جزيرة غوريه قِبلة حقيقية للزوّار ومكان احتفاء بذوي الأصول الأفريقية من شتى أنحاء العالم. إن دلالة الجزيرة ومكانتها في مخيال شتات السود يسمحان بقياس تأثير هاته الجماعة، الباحثة عن هوية مفقودة، في بلورة ذكرى تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي حول جزيرة غوريه.".

ولقد فهمت وكالات السفر ذلك جيدًا. يذكر مامادو دياني، مدير وكالة ريفينا تور في داكار، أن "الأمريكان من أصل أفريقي والرّاغبين في تقفّي خطى أسلافهم يشكّلون جزءًا كبيرًا من عملائنا". وتعتزم هذه الوكالة التي لها علاقة شراكة مع وكالة هارلم للسّياحة والمقيمة في نيويورك، أن تقترح على عملائها مسلكا سياحيا يجمع بين أماكن الذّاكرة المرتبطة بالاتجار بالبشر في كلّ من السّنغال وغامبيا وغانا.

وليس السياح الأجانب وحدهم الذين يأتون لزيارة بقايا مؤسّسات تجارة العبيد، "فتطوّر وسائل النقل الجديدة في داكار قد شجّع السنغاليين أنفسهم على القدوم. وعموما، ما فتئ عدد الزوّار من القارة الأفريقية يتزايد" كما يقول كابا لاي، مساعد أمين منزل العبيد. وفعلا، شهدت السياحة زيادة كبيرة في السنوات الأخيرة في السّنغال، حيث ارتفع عدد الزوّار من 836 ألف زائر سنة 2014 إلى 1.8 مليون سنة 2022.

ما فتئ عدد الزوّار من القارة الأفريقية يتزايد

هذا وقد اتُّخذت عديد التّدابير على مرّ السنين لحماية الموقع، والتّرويج له، وجذب عدد متزايد من الزوّار، وتنويع مسالكهم السياحية. واعتُمد برنامج تنشيط وإعادة إحياء، بدعم من الدولة السنغالية ومؤسسة فورد، بهدف مكافحة التآكل السّاحلي وإنشاء مسلك يربط منزل العبيد بمنزل فيكتوريا ألبيس الذي يضمّ حاليا متحفًا عن تجارة الرّقيق وأشكال العبودية الجديدة. "إنّه أيضًا مركز بحوث في مجال تجارة الرّقيق وتوثيقها، ويُعنى كذلك بالتدريب، ونودّ إنشاء مكتبة رقمية لأرشفة الأعمال" كما يوضّح ذلك كابا لاي.

ومن جهة أخرى، أشرفت اليونسكو، منذ 2017، على إنجاز أوّل مشروع لإعادة تأهيل عدد من المباني بالتّعاون مع عمال بنّائين محليين. وقد شُرِع في مرحلة ثانية بداية من عام 2020 في تعزيز إحياء الموقع من خلال رسم مسلك زيارة يتناسب مع ضرورة الحفاظ على الأماكن، إضافة إلى تدريب المرشدين السياحيين.

نموذج مرجعي للمواقع التذكارية الأخرى

بناءً على نجاحها، أصبحت الجزيرة السنغالية الآن نموذجا يُحتذى. يقول المؤرّخان حمادي بوكوم وبرنارد تولييه: "من الواضح أن غوريه قد تركت أثرها على المواقع التذكارية الأخرى التي شرعت في إنجاز أعمال من أجل إحياء الذّاكرة. ذلك هو حال البنين وغانا، خصوصا، اللتين تسعيان بدورهما إلى تطوير الاهتمام بموقعيْ عويضة والمينا.

بيد إنّ بعض الأصوات عبّرت عن أسفها لعدم انتفاع أهالي الجزيرة بالعوائد الاقتصادية للسياحة. يقول لامين غاي، منسق نقابة المبادرة والسياحية: "السيّاح هم في الأساس عابرون إذ لا يبقون سوى بضع ساعات ثم يغادرون".

وأبدى آخرون أسفهم لإهمال المسالك السياحية عددا من نقاط قوّة الجزيرة مثل الهندسة المعمارية الكولونيالية أو بعض المؤسّسات من قبيل متحف غوريه التاريخي  أو المتحف البحري "رغم إنّهما يعرضان المعارف الأساسية لتاريخ السنغال والإنتاج العلمي للبلاد" كما يؤكّد على ذلك مامادو سيك، أمين متحف بحر غوريه. وفي الواقع، اتّخذ عدد من المبادرات لتنويع الجمهور وتمديد إقامة الزوّار في الجزيرة، نذكر منها بعث مهرجان "غوريه الشّتات" Gorée Diaspora أو "إطلالة على الباحات" Regards sur cours، وهو حدث يفتح خلاله السكّان باحات منازلهم وحدائقهم أمام الفنّانين.

لقد استطاعت جزيرة غوريه أن تفرض نفسها على مرّ السنين كرمز لمأساة العبودية، وموقع رئيسي لنقل هذا التاريخ المؤلم. على إنّه هناك تحدّيان رئيسيّان يظلّان قائمين أمام إدامة هذا الموقع، هما التّدهور السريع لبعض المباني التاريخية، والتآكل الذي تتعرّض له سواحل الجزيرة. 

بينتو وعيسى في جزيرة غوري

بمناسبة قضاء عطلتهما في داكار، قام التوأم بينتو وعيسى بزيارة إلى جزيرة غوري حيث وقفا على المأساة التي مثلتها تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي وتداعياتها على المدى الطويل في مجال التمييز والعنصرية.

ويندرج هذا الألبوم، الموجّه للأطفال المتراوحة أعمارهم بين 5 و9 سنوات، ضمن سلسلة من سبعة إصدارات أنجزتها اليونسكو بالشراكة مع دار النشر المغربية "لغات الجنوب". وقد صدرت ضمن برنامج اليونسكو دروب المستعبدين، والهادف إلى تحسيس الشباب بتاريخ العبودية من خلال كبرى الشخصيات  المرتبطة بهذا التاريخ، وأماكن الذّاكرة المتّصلة بالاتّجار بالبشر، ونضال الأشخاص الذين أُخضعوا إلى الاستعباد، ومختلف مراحل إلغاء الرقّ. وقد حُرّرت هذه الكتب بما يتناسب ومستوى الطّفل مبرزة إسهامات الأشخاص المنحدرين من أصل أفريقي في المجتمعات الحديثة في مجال الثقافة على وجه الخصوص.

Subscribe

اشتركوا في الرّسالة