مقال

عصبة الأمم، حلم عالمي في مواجهة الواقع

تأسست عصبة الأمم منذ مائة عام، في 10 يناير 1920، على أنقاض الحرب العالمية الأولى. وأُنشئ في أعقابها المعهد الدولي للتعاون الفكري، سلَف اليونسكو. وكان الهدف آنذاك تجاوز المصالح الوطنية الأنانية التي أفضت إلى حدوث الكارثة، مع الرهان على التعاون متعدد الأطراف. غير أن هذا الحلم لم يُكتب له الدوام في فترة ما بين الحربين. ومع ذلك، في عصر يواجه تحديات من قبيل الحروب أو الإرهاب أو الأزمات الاقتصادية أو تغيّر المناخ، فإن عقيدة الآباء المؤسسين لعصبة الأمم المتمثلة في بناء عالم أكثر تضامناً لم يتجاوزها الزمن.



 

بقلم يينس باول

إن المصالح الوطنية ليست بالضرورة متعارضة مع التعاون متعدد الأطراف. بل وقد تكون مكملة لبعضها البعض. وبناءً على هذه الفكرة، نشأت عصبة الأمم. والواقع أن مؤسسي هذه العصبة، الذين لا يمكن اعتبارهم مجرد حالمين مثاليين، كانوا على قناعة بأن «الروح الدولية» وواقعية الدولة إنما يرتبطان ترابطاً وثيقاً.

تأسست عصبة الأمم بموجب معاهدة فرساي التي أنهت الحرب العالمية الأولى. وقد استندت هذه المنظمة الدولية الحكومية إلى النقاط الأربع عشرة التي عرضها الرئيس وودرو ويلسون في يناير 1918 على الكونغرس الأمريكي. وفي الواقع تعود فكرة إنشاء عصبة للأمم إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر: خلال المؤتمرين المعنيين بالسلام المعقودين في لاهاي في عام 1899 وعام 1907، تحولت فكرة «كونشرتو الأمم»، التي وضعتها القوى الأوروبية العظمى، إلى فكرة تعاون متعدد الأطراف. 

وفي المؤتمر المعقود في عام 1907، أفضى اجتماع دولي حكومي إلى وضع الدول الأوروبية للمرة الأولي ضمن الأقلية، نتيجةً لحضور 18 بلداً من أمريكا اللاتينية، بينما بلغ المجموع الكلي للدول الحاضرة 44 دولة. ومثل إنشاء عصبة الأمم تقدما هاما وحدثا تاريخيا لم يسبق له مثيل، حتى ولو انطوى على قيود مهمة جرّاء الظروف التاريخية السائدة آنذاك، سواء تعلق الأمر بالاستعمار أو برفض الحكومات أخْذ مبدأ المساواة بين الجنسين بعين الاعتبار.

لن يتكرر هذا أبداً

انبثقت عصبة الأمم، شأنها شأن الأمم المتحدة التي تأسست بعدها بخمسة وعشرين عاماً، عن حرب عالمية، وعن العزم على ألا تتكرر مأساة بهذه الشناعة. غير أن انعدام الإرادة لدى القوى العظمى منع عصبة الأمم من تلافي أو مجازاة الاعتداءات الإقليمية على نحو فعال مثل تلك التي قامت بها اليابان وإيطاليا وألمانيا في ثلاثينات القرن الماضي. وقد أفضى نشوب حرب عالمية ثانية إلى تحطّم الحلم إلى أن أسفر تأسيس الأمم المتحدة، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى إحيائه.

وبعد إنشائها بوقت قصير، قام أعضاء عصبة الأمم بالدفاع عن فكرة تبناها سياسي فرنسي حاز في عام 1920 على جائزة نوبل للسلام، وهو ليون بورجوا، مفادها أن التعاون الفكري الدولي إنما يشكل الشرط الأساسي لإقرار السلام. ومن ثم أُنشئت في عام 1922 اللجنة الدولية للتعاون الفكري، ثم تأسس في عام 1925، المعهد الدولي للتعاون الفكري، وهو الجهاز التنفيذي لهذه اللجنة. وتعتبر هاتان المنظمتان بمثابة سلَف اليونسكو، أو «اليونسكو المنسية»، حسب تعبير المؤرخ الفرنسي جان-جاك رينوليي.

وفي الواقع، تولى المعهد الدولي للتعاون الفكري مهمة وضع قواعد ومعايير دولية، فضلاً عن تنظيم مؤتمرات ونشر مؤلفات حول مواضيع مثل مستقبل الثقافة، ومستقبل الروح الأوروبية، ونحو نزعة إنسانية جديدة، وأوروبا ـ أمريكا اللاتينية (حول العلاقات الثقافية). غير أن إصداره الأكثر شهرة هو لماذا الحرب؟، وهو عبارة عن تبادل رسائل بين سيغموند فرويد وألبرت آينشتاين، الذي صدر في عام 1933، ويدور حول التفكير في أسباب النزاعات ووسائل درئها.

ومن بين العديد من المفكرين الذين تعاونوا مع المعهد الدولي للتعاون الفكري يجدر ذكر الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، وعالمة الفيزياء والكيمياء ماري كوري، وسارفيبالي رازاكريشنان الذي أصبح رئيسا للهند في ما بعد، وأول كاتبة من أمريكا اللاتينية تحصل على جائزة نوبل في الأدب غابرييلا ميسترال، فضلاً عن الكاتب الألماني توماس مان.

استخلاص الدروس

سرعان ما اصطدم المعهد الدولي للتعاون الفكري بتحديات ارتبطت بالسياق السائد في فترة ما بين الحربين. ومن ذلك أنه أراد عام 1933 إعادة طبع المؤلفات التي أحرقها النازيون في ألمانيا. غير أن إدارة المعهد امتنعت عن القيام بذلك خشية إحراج ألمانيا والتسبب في انسحابها من عضوية عصبة الأمم. وهكذا لم تتم إعادة طبع المؤلفات، ولكن ذلك لم يمنع ألمانيا في نهاية الأمر من ترك المنظمة.

وعندما تم تأسيس اليونسكو، استفاد مؤسسوها من الخبرات التي اكتسبها المعهد الدولي للتعاون الفكري، ومن نجاحاته واخفاقاته على السواء. وتُعزى أوجه ضعف المعهد الدولي للتعاون الفكري في جانب منها إلى التركيز المفرط على التعاون بين المفكرين («مجتمع العقول»)، فضلاً عن الدور الثانوي نسبياً الذي كان على السياسة الاضطلاع به. ولهذا السبب، تم اسناد دور أكثر أهمية للدول في هيكل اليونسكو. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التربية، التي لم يكن لها دور بارز على وجه الخصوص في المعهد الدولي للتعاون الفكري، باتت القطاع الذي يحتل مكان الصدارة في برامج اليونسكو، وهي المنظمة التي أكدت على الأهمية الحاسمة للتربية في ما يتعلق برسالتها الرامية إلى تعزيز السلام.

و قد أحرز المعهد الدولي للتعاون الفكري عدة نجاحات في العديد من المجالات، كما أنه أرسى القواعد التي مكّنت اليونسكو من تنفيذ برامجها. ويشمل ذلك على وجه الخصوص الأعمال المتعلقة باللغات والترجمة أو تنظيم المؤتمرات الدولية التي أفسحت المجال لإجراء نقاشات حول مواضيع فلسفية ذات أهمية حاسمة، فضلاً عن الأعمال التقنينية بين جملة من المجالات بما فيها المكتبات والمتاحف. أما مجال صيانة التراث الثقافي فإنه كان من بين الاهتمامات الرئيسية للمعهد الدولي للتعاون الثقافي، شأنه شأن التنوع الثقافي الذي كان يُسَمى آنذاك «خصوصية الثقافات». وفيما يتعلق بالأعمال الخاصة بالكتب المدرسية، المتعلقة بالتاريخ والجغرافيا على وجه الخصوص، الرامية إلى مكافحة الأحكام المسبقة والصور النمطية، فقد أطلقها المعهد الدولي للتعاون الفكري وقامت اليونسكو بمتابعتها. كما أن الدور الذي تضطلع به وسائط الإعلام الجماهيرية، لاسيما الإذاعات، في مجال تعزيز السلام، فإنه كان من بين المجالات ذات الأولوية للمعهد الدولي للتعاون الفكري. ثم تولت اليونسكو استعادة هذا الدور.

حلم قابل للتحقيق

تمثل المعهد الدولي للتعاون الفكري فيما أسماه المؤرخ الأمريكي جيي ونتر «يوتوبيا صغيرة». وتُعتبر محفوظات هذا المعهد، الموجودة ضمن محفوظات اليونسكو، بمثابة شهود على أحلام وآمال تبددت بصورة مؤقتة، قبل أن تظهر من جديد بعد عام 1945. أما إنشاء المعهد فهو محاولة أولى، في تاريخ البشرية، ترمي إلى خلق مجال يتسم بطابع عالمي حقيقي للتعاون الدولي. وقد تعددت أوجه القصور، ولكن الأمر كان يتعلق ببداية، أو بانطلاق مشروع.

وترد نجاحات  المعهد وإخفاقاته، فضلاً عن أوجه قوته وضعفه السياسية، في أرشيف اليونسكو. وفي عام 2017، تم التسليم بالقيمة العالمية لهذه المحفوظات والتشديد عليها بفضل تسجيلها في السجل الدولي لذاكرة العالم لليونسكو. وفي العام ذاته، انطلق مشروع لرقمنة هذه المحفوظات حتى يمكن وضعها على شبكة الإنترنت وتكون متاحة للجميع. وقد اُنجزت عملية الرقمنة هذه في عام 2019.

إن إنشاء عصبة الأمم وهيئاتها المعنية بتعزيز التعاون الدولي حقق حلما كونيا يتمثل في تضامن البشرية جمعاء على صعيد كوكبنا، وهو الحلم الذي يبدو في الوقت الراهن مناسباً أكثر من أي وقت مضى، رغم أنه يتعرض لهجوم شرس في العديد من مناطق العالم. 

إنه حلم ما زال إلى اليوم يُعبّر عما يسكن خواطرنا.



 

أرشيف المعهد الدولي للتعاون الفكري من 1921 إلى 1954 متوفر هنا

 

About the authors

أطلق يِينس باول، المؤرخ الدنماركي، والرئيس السابق لقسم المحفوظات باليونسكو (1995 - 2017) في عام 2004 مشروع تاريخ اليونسكو ونظّم مؤتمرات دولية حول تاريخ المنظمة من أجل تشجيع البحوث المتعلقة بمحفوظاتها واستخدامها. ويتولى في الوقت الراهن إعداد تاريخ اللجنة الدولية الحكومية لعلوم المحيطات لليونسكو، التي تأسست في عام 1960.